فصل: مسألة الرجل يعلم الرجل الوضوء بالماء هل يجزيه ذلك من وضوئه للصلاة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة الجب من ماء السماء تقع فيه الفارة أو الحية وما أشبه ذلك:

وسئل ابن القاسم عن الجب من ماء السماء، تقع فيه الفارة أو الحية، وما أشبه ذلك مما لا يعيش في الماء من دواب الأرض، أو يقع فيه الروث فيوجد فيه الروث طافيا على الماء رطبا أو يابسا، فقال مالك: لا خير فيه. قال ابن القاسم: أما الروث يقع في الجب فيوجد طافيا على الماء، فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: تسهيل ابن القاسم في الروث يوجد في الجب طافيا على الماء، هو الصحيح على أصل المذهب في أن النجاسة لا تفسد الماء الكثير، إلا أن تغير أحد أوصافه، ومساواة مالك بين ذلك وبين موت الفارة أو الحية فيه في أنه لا خير في ذلك، ينحو إلى مذهب أهل العراق في أن الماء الكثير تنجسه النجاسة اليسيرة، وقد روى علي بن زياد، عن مالك في المجموعة نحوه، فقف على ذلك، وبالله التوفيق.

.مسألة وقع في الجب أو البئر من النجس ثم يعجن به العجين أو يطبخ به قدر:

وسئل ابن القاسم عما وقع في الجب أو البئر من النجس، ثم يعجن به العجين، أو يطبخ به قدر، أو يصنع به شيء من الطعام، ثم يعلم به، أيؤكل ذلك الطعام؟ فقال ابن القاسم: أما ما عجن به من الطعام فلا يؤكل، وأما ما طبخ به من اللحم، فإنه يغسل ويؤكل اللحم. قال موسى: وحدثني بعض أهل العلم عن ابن عباس، عن القدر يطبخ بماء أصابه نجس، فقال: يهرق المرق، ويغسل اللحم ويؤكل، قال: فهذا الحديث قوة لابن القاسم.
قال محمد بن رشد: هذه رواية حائلة خارجة عن أصل المذهب؛ لأنه حكم للماء الكثير بحكم النجس بحلول النجاسة فيه، فقال: إن ما عجن بذلك الماء من الخبز لا يؤكل، وهم لم يقولوا ذلك إلا في موت الدابة فيه، لا في حلول النجاسة، ثم ناقض بقوله: إن ما طبخ من اللحم بذلك الماء يغسل ويؤكل، خلاف ما في رسم النذور والجنائز من سماع أشهب، وخلاف ما في سماع يحيى من كتاب الصيد في مسألة البيض يسلق، فيوجد في إحداهن فرخ.
وغسل اللحم لا يصح إذا طبخ بماء نجس؛ لمخالطة النجاسة لجميع أجزائه ومداخلته إياها، وإنما يصح غسله إذا سقطت فيه النجاسة بعد طبخه، وهو الذي روي عن ابن عباس فيما رأيت، فأرى هذه الرواية عنه غلطا، والله أعلم.
روي عن علي بن مسهر أنه قال: كنا عند أبي حنيفة، فأتاه عبد الله بن المبارك فقال له: ما تقول في رجل كان يطبخ قدرا، فوقع فيه طائر فمات؟ فقال أبو حنيفة لأصحابه: ما تقولون فيها؟ فرووا له عن ابن عباس أنه قال: يهرق المرق، ويؤكل اللحم بعد غسله، فقال أبو حنيفة: هكذا نقول، إلا أن فيه شريطة إن كان وقع فيها في حال غليانها، ألقي اللحم وأريق المرق، وإن كان قد وقع فيها في حال سكونها غسل اللحم وأكل، ولم يوكل المرق، فقال ابن المبارك: من أين قلت هذا؟ قال: لأنه إذا وقع فيها في حال غليانها، فقد وصل من اللحم إلى حيث يصل منه الخل والماء، وإذا وقع في حال سكونها ولم يمكث لم يداخل اللحم، وإذا نضج اللحم لم يقبل ولم يدخله من ذلك شيء، فقال ابن المبارك: رزير، يعني الذهب بالفارسية، وعقد بيده ثلاثين، كأنه نسب كلام أبي حنيفة إلى الذهب.
قال محمد بن رشد: وكلام أبي حنيفة في هذه المسألة هو عين الفقه، فقد روي: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الفارة تموت في السمن: «إن كان جامدا فكلوه، وإن كان مائعا فلا تقربوه»، فاللحم بمنزلة الجامد من السمن إذا وقعت فيه النجاسة بعد طبخه، يؤكل بعد أن يغسل مما تعلق به من المرق والنجس، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل يعلم الرجل الوضوء بالماء هل يجزيه ذلك من وضوئه للصلاة:

وسئل عن الرجل يعلم الرجل الوضوء بالماء، هل يجزيه ذلك من وضوئه للصلاة؟ أو يعلمه التيمم في موضع لا يجد فيه ماء، وقد دخل وقت ذلك الصلاة، هل يجزيه ذلك التيمم؟ فقال ابن القاسم: يجزيه الوضوء إذا نوى به للصلاة، والتيمم مثله إذا نوى به الصلاة، قال موسى بن معاوية: فإن لم ينوه لم يجزه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الوضوء والتيمم لا يجزئان إلا بنية، فإذا توضأ أو تيمم لما لا يتوضأ له، ولا يتيمم فرضا ولا نفلا لم يصل بذلك الوضوء ولا بذلك التيمم، إلا أن ينوي به طهر الصلاة، وقد مضى القول على هذا المعنى في رسم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم.

.مسألة يتوضأ للصلاة ثم يرتد عن الإسلام ثم يستتاب فيراجع الإسلام:

وسئل ابن القاسم عن الذي يتوضأ للصلاة، ثم يرتد عن الإسلام، ثم يستتاب فيراجع الإسلام، هل عليه أن يتوضأ للصلاة أم يجزيه الوضوء الأول؟ فقال ابن القاسم: أحب إلي أن يتوضأ.
قال محمد بن رشد: وقال يحيى بن عمر، بل واجب عليه أن يتوضأ؛ لأن الكفر أحبط عمله. وهذا الاختلاف جار على اختلافهم في الأعمال، هل تحبط بنفس الكفر بظاهر قول الله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65] أو لا تحبط إلا بشرط الوفاة على الكفر؛ لقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217]، والقولان قائمان من المدونة.
فمن قال بدليل الخطاب لم ير أن تحبط الأعمال بنفس الكفر، ومن لم يقل به رأى أنها تحبط به، ولهذا تفسير، وذلك أن قول الله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، ظاهره أن الأعمال تحبط بنفس الشرك، وفي قوله عز وجل: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] دليل على أن من ارتد ولم يمت كافرا لم يحبط عمله، ولا كان مخلدا في النار. فأما كونه غير مخلد في النار فالإجماع على ذلك يغني عن الدليل فيه، وأما كون عمله غير محبط بالارتداد فيعارضه ظاهر قوله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، فمن لم يقل بدليل الخطاب من هذه الآية حمل قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] على ظاهره، فقال: إن الأعمال تحبط بنفس الارتداد، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في كتاب النكاح الثالث من المدونة في الذي يحج حجة الإسلام، ثم يرتد، ثم يراجع الإسلام أن الحج الذي حج قبل ارتداده لا يجزيه، وكذلك قال على قياس هذا: إن ما ضيع من الفرائض قبل ارتداده لا يلزمه قضاؤه، بدليل قوله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]. ومن قال بدليل الخطاب من هذه الآية، أن من ارتد ولم يمت على الكفر لم يحبط عمله، فسر به قوله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] لمعارضته له في الظاهر، فقال: معناه لئن أشركت ووافيت على الكفر ليحبطن عملك، وهو قوله في هذه الرواية؛ لأنه استحب له إذا توضأ ثم ارتد ثم راجح الإسلام، أن يعيد الوضوء، ولم ير ذلك عليه، والقول الأول أظهر أن يحمل قوله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] على ظاهره، بأنه يحبط بنفس الكفر وإن راجع الإسلام، وما في الرواية الثانية من إن مات وهو كافر حبط عمله، وخلد في النار زيادة بيان على ما في الآية الأولى، وبالله التوفيق.

.مسألة الذي يتوضأ وينسى غسل رجليه فيمر بنهر ويدخل فيه ويخوضه:

وسئل ابن القاسم عن الذي يتوضأ وينسى غسل رجليه، فيمر بنهر ويدخل فيه ويخوضه، هل يجزيه من غسل رجليه؟ قال: قال مالك: إذا دلك إحدى رجليه بالأخرى أجزاه. قال ابن القاسم: وإذا دلك إحدى رجليه بالأخرى، وكان يستطيع ذلك فلا بأس به.
قال محمد بن رشد: ولابد له من تجديد النية؛ لأنه لما نسي غسل رجليه وفارق وضوءه على أنه قد أكمله ارتفضت النية المتقدمة فيلزمه تجديدها، وكذلك قال في المدونة في الذي توضأ وأبقى رجليه، فخاض نهرا وغسلهما فيه: إن ذلك لا يجزيه إلا بنية؛ لأن معنى ذلك أنه أبقى رجليه ظنا منه أنه قد أكمل وضوءه. ولو أبقاهما قاصدا ليغسلهما في النهر لم يحتج في ذلك إلى تجديد النية وأجزاه غسلهما في النهر دون تجديد نية إن كان النهر قريبا، حتى لا يكون في فعله ذلك مفرقا لوضوئه، ولو كان على النهر، فلما فرغ من وضوئه أدخلهما فيه، فدلك إحداهما بالأخرى، لم يحتج في ذلك إلى تجديد نية. وستأتي المسألة في سماع محمد بن خالد. وفي إجازة دلك إحدى رجليه بالأخرى دون أن يغسلهما بيديه ما يدل على أن الأصابع لا تخلل، وقد مضى ذلك في رسم اغتسل على غير نية من سماع ابن القاسم.

.مسألة الذي نسي أن يمسح أذنيه حتى صلى أو يمسح بعض رأسه مقدمه:

وسئل ابن القاسم عن الذي نسي أن يمسح أذنيه حتى صلى، أو يمسح بعض رأسه مقدمه أو مؤخره أو صدغيه ويصلي، قال: قال مالك: لا يعيد الصلاة من نسي مسح أذنيه، أو نسي المضمضة أو الاستنشاق من جنابة أو غيرها. قال ابن القاسم: وإن نسي بعض رأسه ومسح بعضه، فإنه يعيد في الوقت وبعد الوقت.
قال محمد بن رشد: الأذنان عند مالك من الرأس، وإنما السنة عنده في تجديد الماء لهما، فإنما قال فيمن نسيهما في الوضوء: إنه لا إعادة عليه، مع أن استيعاب مسح جميع الرأس عنده واجب؛ مراعاة لقول من قال: إنهما ليسا من الرأس، إذ قيل أيضا: إنه لا يلزم استيعاب مسح الرأس، وقد مضى ذلك في رسم الصلاة من سماع أشهب. ولو ترك غسلهما في الغسل لأعاد؛ لأنهما لمعة من جسده، وأما المضمضة والاستنشاق فلا يعيد من تركهما في غسل أو وضوء؛ لأنهما سنة فيهما جميعا، وهذا كله بين، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل يتيمم بالتراب هل يجوز لآخرين التيمم بفضل ترابه:

وسئل ابن القاسم عن الرجل يتيمم بالتراب، ثم يأتي نفر آخرون، هل لهم أن يتيمموا بفضل تراب الأول الذي تيمم به. قال ابن القاسم: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن التراب لا يتعلق به من أعضاء التيمم ما يخرجه عن حكم التراب كما يتعلق بالماء من أوساخ أعضاء المتوضئ، فينضاف بذلك، ويخرج به عند أصبغ عن حكم الماء المطلق إلى أن يسمى غسالة، وبالله التوفيق.

.مسألة معهم ماء يكفي لطهارة رجل فيموت أحدهم هل يكون الميت أولاهم:

وسئل ابن القاسم عن النفر المسافرين يكون معهم من الماء ما يكفي رجلا منهم للغسل، فيموت رجل منهم، هل يكون الميت أولاهم بذلك الماء؟ وكيف به إن كان الماء بينهم فمات واحد منهم، وأجنب الثاني، وانتقض وضوء الثالث، من أولاهم بذلك الماء؟ وكيف ينبغي لهم أن يصنعوا؟ فقال ابن القاسم: إذا كان الماء للميت فهو أولى به، وإن كان الماء بينهم، وكان قدر ما يكفي واحدا يغتسل به، فالحي أولى به يتوضأ به، وييمم الميت.
قال محمد بن رشد: قوله إذا كان الماء بينهم قدر ما يغسل به واحد منهم، فمات أحدهم، وأجنب الثاني، وانتقض وضوء الثالث، فالحي أولى به يتوضأ به، أي الحي الذي انتقض وضوؤه أولى بنصيبه منه يتوضأ به، وييمم الميت، يريد ويتيمم الحي الجنب أيضا، إذ ليس فيما بقي من الماء بعد أخذ الذي كان عليه الوضوء نصيبه منه ما يكفي واحدا منهما للغسل. ولو كان فيه ما يكفي واحدا منهما لكان الحي أولى به على ما في سماع عبد المالك من كتاب الجنائز، إذ لا يقاوم على الميت ويغرم قيمة حصة الميت لورثته إن كان الماء له ثمن. ولو كان بين رجلين وهو قدر ما يكفي أحدهما للوضوء أو الغسل لتقاوماه فيما بينهما. وأما إن كان الماء لأحدهم فصاحبه أولى به حيا كان أو ميتا.

.مسألة الذي يتوضأ في صحن المسجد وضوءا طاهرا:

وسئل عن الذي يتوضأ في صحن المسجد وضوءا طاهرا، فقال: لا بأس بذلك، وترك ذلك أحب إلي، وسئل عنها سحنون فقال: لا يجوز ذلك.
قال محمد بن رشد: لا وجه للتخفيف في ذلك، وقول سحنون أحسن؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36]، فأحب أن ترفع وتنزه عن أن يتوضأ فيها لما يسقط من غسالة أعضائه فيها من أوساخ قد تكون فيها، ولتمضمضه فيها أيضا، وقد يحتاج إلى الصلاة في ذلك الموضع، فيتأذى المصلي بالماء المهراق فيه. وقد روي: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «اجعلوا مطاهركم على أبواب مساجدكم» ولقد كره مالك أن يتوضأ رجل في المسجد، وأن يسقط وضوءه في طست. وذكر أن هشاما فعله، فأنكر ذلك الناس عليه.
من سماع محمد بن خالد وسؤاله عبد الرحمن بن القاسم:

.مسألة الرجل يتوضأ على نهر فإذا فرغ من وضوئه خضخض رجليه في الماء:

قال محمد بن خالد: وسألت عبد الرحمن بن القاسم عن الرجل يتوضأ على نهر، فإذا فرغ من وضوئه، ولم يبق إلا غسل رجليه خضخض رجليه في الماء، فقال: سألت مالكا عن ذلك فقال: يغسلهما بيديه ولا يجزيه ما صنع، فقلت لابن القاسم: فإن غسل إحداهما بالأخرى، فقال: إنه لا يقدر على ذلك، فقلت له: بلى، فقال: إن كان يقدر على ذلك، فذاك يجزيه إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الغسل لا يعقل في اللغة على الحقيقة إلا بصب الماء وإمرار اليد، أو ما يقوم مقام ذلك من دلك إحدى رجليه بالأخرى في داخل الماء إن كان يستطيع ذلك، وقد روي عن محمد بن خالد أنه قال: لا يجزيه حتى يغسلهما بيده، فيحتمل أن يكون رأى أن دلك إحدى رجليه بالأخرى لا يمكنه، ولعله جعل ذلك من فاعله استخفافا بوضوئه وتهاونا به إذا فعله من غير حاجة إلى ذلك ولا ضرورة، وإن ذلك ليشبه، وقد مضى في أول نوازل سحنون ما يتخرج من الخلاف في غسلهما بيديه في داخل النهر دون أن ينقل إليهما الماء، وبالله التوفيق.

.مسألة تيمم فيمم وجهه ويديه فقط:

وقال ابن القاسم: من تيمم فيمم وجهه ويديه قط، فإنه يعيد ما كان في الوقت، فإذا ذهب الوقت فلا إعادة عليه، وكذلك قال أصبغ في الذي يتيمم إلى الكوعين: إنه يعيد في الوقت، وكذلك قال مالك. وقال ابن القاسم: فيمن تيمم بضربة واحدة لوجهه ويديه إلى المرفقين ناسيا لم يكن عليه شيء، ثم سألته عن ذلك فقال: هو كما أخبرتك، وكذلك قال مالك.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة، وذكر الاختلاف فيها في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل يستنجي بالماء فإذا فرغ من ذلك قطر منه بول فمس ذكره:

ومن سماع عبد الملك بن الحسن من ابن وهب:
قال عبد المالك بن الحسن: سألت عبد الله بن وهب عن الرجل يستنجي بالماء، فإذا فرغ من ذلك قطر منه بول، فمس ذكره وحلبه، هل عليه أن يعيد غسل يديه بالماء قبل أن يدخلها في الإناء، أم يجزيه الذي كان حين استنجى أولا؟ فقال: نعم عليه أن يغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء. ولو انتقض وضوؤه بريح يخرج منه رأيت له أن يعيد غسل يديه أيضا قبل أن يعيدهما في وضوئه، وهو قول مالك في هذا، وإنما هذا يستحب له، ويؤمر به، وليس ذلك عليه بواجب. وقال أشهب: إن كان أصاب يده نجس غسل ما أصاب يده من ذلك النجس، وإن لم يكن أصابها شيء توضأ، ولم يكن عليه غسل يديه مرة أخرى، وعهده بغسلهما قريب، وإن كان غسله إياهما كان بعيدا، فإني أرى أن يبتدئ وضوءه ويغسلهما.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة موعبا في أول رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب، فمن أراد الوقوف عليه تأمله هناك.

.مسألة المبطون إذا كان لا يقدر على الوضوء:

وسئل ابن وهب عن المبطون إذا كان لا يقدر على الوضوء، هل ترى بأسا أن يتيمم، فقال: نعم، لا أرى بذلك بأسا. وسألته عن المائد في البحر إذا كان لا يقدر على الوضوء، هل ترى أن يتيمم؟ قال: لا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: قول ابن وهب هذا: إن المبطون والمائد في البحر إذا لم يقدرا على الوضوء يتيممان هو مثل ما لمالك في المدونة؛ لأن ذلك مرض من الأمراض، والمريض إذا لم يقدر على مس الماء، وإن كان واجدا له يتيمم على مذهبه فيها، وهو الذي يأتي على قول من حمل آية التيمم على تلاوتها، وجعل فيها إضمارا، ولم يقدر فيها تقديما ولا تأخيرا، وأما من قدر فيها تقديما وتأخيرا، وهو قول محمد بن سلمة من أصحابنا، فلا يجيز للمريض الذي لا يقدر على مس الماء إذا كان واجدا له التيمم، ولا للحاضر العادم الماء؛ لأنه يعيد شرط عدم الماء على المرض والسفر خاصة، وإلى هذا ذهب مالك في رسم أوله الشريكين يكون لهما مال من هذا الكتاب، وقد ذكرنا ذلك هناك وبينا وجهه. وسواء إذا كان الماء معهما كانا لا يقدران على الوضوء لضعفهما عن تناوله بأنفسهما لمرضهما، أو لضرر الماء بهما، وأما لو كان الماء غائبا عن موضعهما فلم يجدا من ينقلهما إلى موضعه، ولا من يناولهما إياه لجاز لهما التيمم قولا واحدا؛ لأنهما عادمان للماء، والمريض العادم للماء من أهل التيمم بإجماع، حاضرا كان أو مسافرا، وبالله التوفيق.

.مسألة رجل طبخ بانا فلما غلى الدهن وجد فيه فارة ميتة لم تنفسخ أو قد انفسخت:

ومن سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب الزكاة والصيام:
قال أصبغ: سمعته يذكر أنه بلغه عن مالك في رجل طبخ بانا بالمدينة، فلما غلى الدهن وجد فيه فارة ميتة لم تنفسخ أو قد انفسخت، وهي من ماء البير حين صبه فيه، وقد طبخه بعد، قال: فأمره مالك أن يتم طبخه، ويأخذ الدهن الأول الذي عجن فيه فيطبخه بماء طيب مرتين أو ثلاثا، وقاله أصبغ: إذا كان كثيرا، وإن كان يسيرا لا كبير ضرر فيه فليطرحه.
قال محمد بن رشد: قد نص في الرواية أن الفأرة وجدت في الدهن بعد أن غلي، وهي قد انفسخت أولم تنفسخ، وذلك يوجب أن يكون الدهن قد نجس بإجماع، وإن كانت الفأرة لم تمت إلا في ماء البير، فيجب على قياس قول مالك هذا أن يجوز غسل الزيت الذي تموت فيه الفأرة؛ إذ لا فرق بين صب الماء على الدهن وطبخه حتى يذهب الماء ويخلص الدهن، وصب الماء على الزيت وغسله بهرق الماء عنه حتى يخلص الزيت. ويؤيد هذا أنه قد روى ذلك عن مالك علي بن زياد، وابن نافع، وما روي عن يحيى بن عمر أنه قال: إنما خفف مالك مسألة الدهن لاختلاف الناس في ماء البير تموت فيه الفأرة، ولم يتغير ماؤها ليس بصحيح، لما تضمنه الرواية من أن الفأرة إنما خرجت من الدهن بعينه بعد أن غلت فيه لا من ماء البئر.
وكذلك ما حكى ابن حبيب في الواضحة، عن ابن الماجشون أنه قال: ولو فعل ذلك فاعل بالزيت الذي تموت فيه الفأرة ما جاز؛ لأن الفأرة لم تمت في زيت البان، وإنما ماتت في ماء البير ليس بصحيح أيضا؛ لأنها وإن كانت لم تمت في زيت البان، فقد غلت فيه ميتة، فنجس بذلك بإجماع كما لو ماتت فيه. وإذا طهر الماء الدهن بصبه عليه لتخلله إياه، ووصوله إلى جميع أجزائه، وإن لم تمت الفأرة إلا في الماء الذي عجن به، فكذلك يطهر الزيت الذي ماتت فيه الفأرة إذا غسل به لتخلله إياه، ووصوله إلى جميع أجزائه، إذ لا فرق بين ذلك في المعنى والقياس، ومراعاة الاختلاف خارج عن القياس، فثبت ما ذهبنا إليه من حمل مسألة الزيت على مسألة الدهن بالقياس، وتفرقة أصبغ بين أن يكون الدهن قليلا أو كثيرا في هذه المسألة وجهها مراعاة الاختلاف الذي ذكرناه في جواز غسله، إذ لا اختلاف في نجاسته لما ذكرناه، فرأى أن يغسل الكثير لحرمة الطعام وحفظ المال، والله أعلم، وبه التوفيق.

.مسألة مقدار الفرق ثلاثة آصع:

قال أصبغ: قال ابن القاسم وسفيان بن عيينة: الفرق ثلاثة آصع، وهو الذي كان يتوضأ منه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتطهر.
قال محمد بن رشد: يقال: الفرق والفرق- بتحريك الراء وإسكانها- وهو مكيل معروف. وروي عن ابن وهب أنه مكيال من خشب، ولا اختلاف أعلمه أن في كيله ثلاثة آصع، وأن في كل صاع أربعة أمداد. وإنما اختلفوا في المد فقيل: إنه زنة رطلين؟ وقيل: إنه زنة رطل وثلث، قيل بالماء، وقيل بالوسط من الطعام. وقد رويت في هذا الباب آثار ظاهرها التعارض لاختلافها في مقدار ما كان يتوضأ به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويغتسل من الماء. منها ما روي: «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجنابة»، ومنها ما روي عن عائشة أنها قالت: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع»، ومنها ما روي عن أنس بن مالك: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كان يتوضأ بالمكوك، ويغتسل بخمس مكاكي»، والذي أقول به في ذلك أن ذلك ليس باختلاف تعارض، وإنما هو اختلاف تخيير وإباحة وإعلام بالتوسعة، فكان يغتسل مرة بثلاثة آصع على ما في الحديث الأول، ومرة بصاع ونصف على ما في الحديث الثاني، ومرة بصاع على ما في الحديث الثالث، ومرة بصاع ومد إذا كان المكوك مدا على ما في حديث أنس، وأن عائشة قصدت في الحديث الثالث إلى الإعلام بأقل ما رأت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتوضأ به، ويغتسل من الماء، وقصد أنس بن مالك في حديثه أيضا إلى الإعلام بأقل ما رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتوضأ به ويغتسل من الماء، وهي كلها بجملتها تقتضي أن تقليل الماء مع إحكام الغسل هو المختار في الوضوء والغسل، وأنه لا حد في ذلك من الماء يجب الاقتصار عليه. ومن الناس من ذهب إلى أنه لا اختلاف في الأحاديث في مقدار ما كان يتوضأ به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويغتسل من الماء، فصرفها كلها بالتأويل إلى حديث أنس بن مالك بأن قال: يحتمل أنه أراد بالمكوك المد، فقوله: إنه كان يتوضأ بالمكوك هو مثل ما في حديث عائشة من أنه كان يتوضأ بالمد. وقوله: إنه كان يغتسل بخمس مكاكي، يريد أنه كان يتوضأ أولا بمكوك منها، ثم يغتسل بالأربعة مكاكي، مثل ما في حديث عائشة من أنه كان يغتسل بالصاع؛ لأنه يحتمل أن تكون أرادت أنه كان يغتسل بالصاع بعد أن كان يتوضأ بالمد. وقول عائشة: «كنت أغتسل أنا ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إناء هو الفرق» يحتمل أن لا يكون الفرق مملوءا من الماء، وأن يكون فيه قدر صاعين ومدين فيتوضأ، كل واحد منهما في أول غسله بمد، ثم يغتسل بأربعة أمداد وهو صاع، وما روي من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يغتسل من إناء هو الفرق، يحتمل أن يكون كان يغتسل منه بقدر الصاع، ويفضل من الماء فيه بعد غسله منه قدر صاعين، ويحتمل أن لا يكون مملوءا من الماء، وأن يكون قدر صاع لا أكثر. والذي ذكرته أولا هو الصحيح، ولا يمتنع عندي أن يكون صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يغتسل أيضا في بعض المرات بأكثر من ثلاثة آصع، بل هو الظاهر من حديث الموطأ في صفة غسله «أنه كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبدأ فيغسل يديه، ثم يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعر رأسه، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله»، والله أعلم.

.مسألة المسح على الخفين في الحضر والسفر:

من مسائل نوازل سئل عنها أصبغ بن الفرج:
قال: شهدت ابن وهب في داره بالفسطاط توضأ، ومسح على خفيه، وقال لي: اشهد علي. قال أصبغ: المسح لا شك فيه هو أثبت من كل شيء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكبراء أصحابه، قال: وأنا أمسح في الحضر، وأفتي به.
قال محمد بن رشد: قول ابن وهب وأصبغ في إجازة المسح في الحضر كما يجوز في السفر هو الذي رجع إليه مالك رَحِمَهُ اللَّهُ ومات عليه، بعد أن كان اختلف قوله فيه. وقد مضى القول في هذه المسألة بكماله في رسم البز من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.

.مسألة رجل جنب لا يستطيع أن يفيض الماء على جلده وهو ممن يجد ماء:

من سماع أبي زيد من ابن القاسم:
قال أبو زيد: سئل ابن القاسم، عن رجل جنب لا يستطيع أن يفيض الماء على جلده، وهو ممن يجد ماء، قال: يتيمم لكل صلاة. قيل له: أرأيت إن تيمم فصلى بذلك التيمم صلوات، أترى أن يعيد الصلوات؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الذي يجد الماء ولا يقدر على مسه يتيمم لكل صلاة، هو قول مالك في المدونة على أصله في أن آية التيمم على تلاوتها لا تقديم فيها ولا تأخير، وقد قيل: إنه ليس من أهل التيمم، وهو قول مالك في رسم الشريكين من سماع ابن القاسم، ومن متأخري أصحابنا من قال: إن له أن يجمع صلاتين بتيمم واحد. وأما الذي لا يجد الماء في السفر أو لا يجد من يناوله إياه وهو مريض في الحضر، فلا اختلاف في المذهب في أنه لا يجوز له أن يجمع صلاتين بتيمم واحد، إلا ما روي عن أبي الفرج في ذاكر صلوات أنه يجوز له أن يصليها بتيمم واحد.
وقوله: إنه يعيد الصلوات إن صلى بذلك التيمم صلوات، يريد ما بعد الصلاة الأولى من الصلوات، ويريد الوقت وبعده، وهو ظاهر الرواية. وقد قيل: إن كانت الصلاتان اللتان صلى بتيمم واحد مشتركتي الوقت، أعاد الثانية في الوقت، والوقت في ذلك إلى الغروب، وقيل الوقت في ذلك وقت الصلاة المفروضة: القامة للظهر، والقامتان للعصر. وإن لم تكونا مشتركتي الوقت أعاد الثانية أبدا.
وقد قيل: يعيد الثانية ما لم يطل مثل اليومين وأكثر من ذلك. وقد اختلف في المعنى الذي من أجله، لم يجز للمتيمم أن يصلي صلاتين بتيمم واحد، فقيل: إن المعنى في ذلك أن الله أوجب الوضوء لكل صلاة، أو التيمم إن لم يجد الماء بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]، فخصصت السنة الوضوء؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صلى يوم فتح مكة صلوات بوضوء واحد»، وبقي التيمم على الأصل.
وقيل: بل المعنى في ذلك أن الله لم يبح التيمم إلا أن لا يوجد الماء، ولا يكون غير واجد له إلا إذا طلبه فلم يجده، فصار الطلب للماء شرطا من صحة التيمم للصلاة عند القيام إليها بعد دخول وقتها، وكذلك صار طلب القدرة على استعمال الماء للمريض الذي لا يقدر على مس الماء شرطا في صحة التيمم للصلاة عند القيام إليها، عند من جعله من أهل التيمم، فعلى هذا المعنى أجاز مالك في رواية أبي الفرج عنه لذاكر صلوات أن يصليها بتيمم واحد؛ لأنه جعل الصلوات المذكورة في حكم صلاة واحدة لوجوب صلاتها عليه جميعا حين يذكرها في الوقت الذي يذكرها فيه، ولم يجز ذلك في رواية غيره؛ لأنه رأى أن طلب الماء واجب عليه كلما سلم من صلاة، وأراد القيام إلى أخرى، فالطلب على هذا القول شرط من صحة التيمم لكل صلاة عند القيام إليها، وعلى رواية أبي الفرج هو شرط في صحة التيمم، لما اتصل من الصلوات المفروضات، وعلى هذا المعنى أيضا أجاز من أجاز من متأخري أصحابنا للمريض الذي لا يقدر على مس الماء أن يصلي صلاتين بتيمم واحد؛ لأنه لما كان الأغلب من حاله أنه لا يقدر على مس الماء، لم يوجب عليه طلب القدرة على استعماله، والأظهر أن ذلك عليه واجب، إذ قد يتحامل فيقدر، وليس لما يلزمه من التحامل على نفسه في ذلك حد لا يتجاوز، وإنما هو مصروف إلى استطاعته، وموكول إلى أمانته. وأما على المعنى الأول، فلا يتجه هذا القول ولا رواية أبي الفرج في ذاكر صلوات، والله أعلم، والقياس على المذهب فيمن صلى صلاتين بتيمم واحد أن يعيد الأخيرة أبدا، ومن قال: إنه يعيدها في الوقت، وفرق بين المشتركتين في الوقت وغير المشتركتين، فليس قوله بقياس، وإنما هو استحسان لمراعاة قول من قال من العلماء: إن التيمم يرفع الحدث كما يرفعه الوضوء، وإنه لا وضوء عليه، وإن وجد الماء ما لم يحدث، وبالله التوفيق.